المجموعة الثانية من الانتقادات العلمية والمنهجية على د.عدنان إبراهيم

بسم الله نبدأ في المجموعة الثانية من الانتقادات العلمية المنهجية على د.عدنان إبراهيم ، والمتعلقة بموضوع إنكار النسخ في القران.
وليس القصد نقاش قضية النسخ لذاتها بقدر ما هو انتقاد لإشكالات منهجية كبيرة وقع فيها خلال استدلاله على إنكار النسخ،وأقول هذا بعد أن استمعت لكامل خطبته في الموضوع حتى أُدرك رأيه جيداً، وأقطع الطريق على من لايجد حجة بعد هذا الانتقاد إلا قوله (هل استمعت لكلامه كاملاً) ؟
إن أكبر ما يؤخذ عليه في هذه الخطبة أمران، الأول: الجُرأة على التسفيه والتقبيح والإقصاء لرأي شرعي لم تختلف الأمة عليه (إلا خلافا شاذاً) ! وليته جعل قول الأمة من قبيل الخلاف سائغا -على الأقل- بل قام بحشد الأدلة الصحيحة (غير الصريحة) والأدلة الضعيفة على فساد وبطلان ووقاحة هذا الرأي المخالف له مايجعلك تعتقد أن قائل هذا القول صبي لم يُميز، ولم يعرف أركان الصلاة، ولاشروطها! مع أنه قد يصف -في موضع آخر- بعض القائلين بهذا القول الذي سفهه بالإمامةوالتقدم في العلم والنظر!!

والأمر الثاني: أنه حين يُقرر رأيه بهذه القوة مخالفاً لما اتفقت عليه الأمة فإنه يلزم على رأيه هذا لوازم باطلة مِن ردٍّ للأحاديث التي تخالف هذا الرأي ونحو ذلك، وللأسف يلتزم بهذه اللوازم، ويكون أسهل شيء عليه هو وصف الحديث الذي يخالفه بالكذِب
حتى ولو كان الحديث في صحيح البخاري أو في صحيح مسلم، دون اعتبار لإسناده أو موقف أهل الحديث منه، ودون أن ينظر: هل في إسناده مجال لاتهام أحد رجاله بالكذب أم لا! المهم أنه كذب عنده، ثم يصرح بأنه لايدري من يَدُس هذه الأحاديث! ويُبرئ الصحابة من عهدتها ويُحمّل الكذب أيادٍ مجهولة !!
ولكي أُثبت كلامي السابق سأبدأ بذِكر الاتفاق على أمر النسخ، ثم أذكر تقبيحه للقول بالنسخ في القران، ثم الأحاديث التي ردها ليستقيم رأيه.
فقد قال الآمدي في الإحكام “اتفق أهل الشرائع على جواز النسخ عقلاً وعلى وقوعه شرعاً، ولم يخالف في ذلك من المسلمين سوى أبي مسلم الأصفهاني”
الإحكام ص 467 ط. ابن حزم
وقال الباجي :”كافة المسلمين على القول بجواز النسخ، وذهبت طائفة ممن (شذّ) من المبتدعة إلى أن النسخ لايجوز”
وذلك في كتابه إحكام الفصول ص 391.
وقال الشوكاني “لا خلاف في جواز نسخ القران بالقران” إرشاد الفحول ص 627 ط.ابن كثير.
وذكرتُ هذا النقل عن الشوكاني لأن فيه ذكر الاتفاق على نسخ شيء من القران لأن موضوع خطبة عدنان إبراهيم عن النسخ في القران، وإلا فإن للشوكاني نقلاً آخر قوياً جداً في موضوع النسخ بشكل عام -وهو شامل لموضوعنا أيضاً- حيث قال “النسخ جائزٌ عقلاً، واقعٌ سمعاً بلا خلاف في ذلك بين المسلمين إلا ما يُروى عن أبي مسلم الأصفهاني فإنه قال: إنه جائزٌ غيرُ واقع، وإذا صح هذا عنه فهو دليل على أنه جاهل بهذه الشريعة المحمدية جهلاً فظيعاً. وأعجبُ من جهله بها حكايةُ من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة،فإنه إنما يُعتد بخلاف المجتهدين لابخلاف من بلغ في الجهل إلى هذه الغاية!”ص609
وأيضاً، فيما يتعلق بنسخ التلاوة في القران :
قال البيهقي في السنن (8-2111): «آية الرجم حكمها ثابت وتلاوتها منسوخة وهذا مما لا أعلم فيه خلافا”
لا أريد الإطالة في نقل الاتفاقات فليس الموطن هنا موطن التفصيل في مسألة النسخ، وإنما نريد أن نبين كيف تعاملَ عدنان إبراهيم مع هذا القول؟
هو (يكاد) يعترف في النص الذي سأنقله عنه الان أن أهل السنة مجمعون على وقوع النسخ في القران وإن كان قد لمّح أو صرح بخلافه في موضع آخر.. إلا أنه وبجرأة تكاد تكون منقطعة النظير وصف اتفاقهم هذا بأنه تحريف للقران! هكذا بكل سهولة: أهل السنة متفقون أو يتفق معظمهم على تحريف القران!

حيث ذكر في خطبته بعنوان (لارجم في القران) من الدقيقة (45:07) من قناته على “يوتيوب” ما نصه:
“الشيعة يدّعون -مُعظم علماء الشيعة- أن التحريف وقع في كتاب الله، لكن -بين قوسين- ومعظم أهل السنة والجماعة من عِند آخرهم يوافقون الشيعة في بعض هذا، ويَدّعون أن التحريف وقع في كتاب الله، خاصة حين يتحدثون عن نسخ التلاوة”
انتهى كلامه بنصه.

وهذه هي المشكلة أن يصف القول المخالف له بقوله (معظم أهل السنة والجماعة من عند آخرهم،..،يدّعون أن التحريف وقع في كتاب الله) و يعضد رأيه بقول الله “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” ! ثم يقول ليس بعد كلام الله كلام لاتقول لي لافلان، لا علان، لا الأمة!
إن الاستدلال بهذه الاية هنا لإثبات أن النسخ ينافي حفظ الله للقران هو تسطيح رهيب للمسألة، وهذه الاية يفقهها كل من قال بالنسخ من العلماء ولم يستشكلها أحدٌ منهم، وكلهم أجمعوا إجماعاً قطعيا على أن تحريف القران كُفر، ولم يقل أحد منهم إن النسخ تحريف! بل أثبتوه وقالوا به!
فهل اتضح الخلل المنهجي في تصويره للقضية؟
إذن، انتهينا الان من نقطتين من ثلاثٍ، فأما الثالثة: وهي رد كل ما يعارض ما ذهب إليه دون أي تحقيق علمي، فبيانها كما يلي:
حديث عائشة في صحيح مسلم الذي فيه نسخ التلاوة والحكم لآية التحريم بعشر رضعات. قال ما نصه (51:46) “هذا مما وضع. تقول إيه؟: وُضع في مسلم؟ ماليش علاقة بمسلم بالبخاري، أنا لي علاقة بكتاب الله، روحوا فتشوا ، هذا كتاب الله ما تلعبوا يا أخي..” انتهى
.
ومن اللطيف أن النووي حين شرح هذا الحديث في شرحه لمسلم ، والحديث برقم (1452) قال “بعضهم زعم أنه موقوف على عائشة، وهذا خطأ فاحش، بل قد ذكره مسلم وغيره من طُرُق صحاح مرفوعاً من رواية عائشة ومن رواية أم الفضل” ثم ذكر أن بعضهم زعم أنه مضطرب فعلق قائلاً :
“وهذا غلط ظاهر، وجسارة على رد السنن بمجرد الهوى، وتوهينٌ لصحيحها لنصرة المذهب” انتهى كلام النووي.
قلتُ: ماذا سيقول في حق من قال إنه موضوع!
مثال آخر -وهو أكثر جراءة من سابقه- حيث ذَكر أن قوما يثبتون نسخ الحكم في قول الله في آية الصيام “كما كتب على الذين من قبلكم” وأن مِن صيام مَن قبلنا أنه كان يحرم عليهم إتيان نسائهم ليلة الصيام، وأن هذا منسوخ بآية “أُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم” والرفث هنا الجماع.
وردّ هذا النسخ ثم قال ولكن يُشكل عليه بعض الاثار وأشار إشارة سريعة إليها دون تفصيل.
وهذه الاثار هي التي فيها أن إتيان النساء في ليل رمضان كان محرماً على الصحابة أول الأمر،وأن أناساً كانوا يختانون أنفسهم فيعملونه، كما في نفس الاية “علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم”
وبكل سهولة وجُرأة قال عن هذه الاثار “قصص يؤلفونها” !
أريد تفسيراً علمياً لهذا الخبط العشوائي (وهذا أقل ما يقال بعد هذه الجُرأة على السنة)
من روى هذه الاثار؟ ما أسانيدها؟ ما موقف أهل العلم منها؟ كل هذا لايهمه . هي قصص مؤلفة رضيت أم سخطت، قال “لتتفق معهم قضية الناسخ والمنسوخ”
وبهذا الكلام تشعر أن المفسرين والمحدثين إما لصوص وإما مغفلون صدّقوا هؤلاء اللصوص. فإن هذه الاثار التي يقول عنها “قصص مؤلفة” مروية من طرق متعددة ، ويذكرها أغلب المفسرين عند الاية، وأخرج بعضها البخاري (4508) بل ويعضدها ظاهر القران “علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم”
فما هكذا يكون الإنصاف! وهل هذا هو هدي أهل العلم؟! إن من أكبر الخطأ أن يكون إثبات المرء لإعماله عقله على حساب نسف عقول وجهود الآخرين.

وبهذا نكون قد انتهينا من الجزء الثاني من هذه الانتقادات.. وسننتقل بإذن الله في وقت لاحق إلى الجزء الثالث مع موضوع جديد.

حرر بتاريخ 15- 7 – 1434
alsayed_ahmad@
أحمد السيّد

Share